فصل: تفسير الآيات (128- 132):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المحيط في تفسير القرآن العظيم (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (128- 132):

{لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ (128) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (129) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (130) وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (131) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (132)}
{ليس لك من الأمر شيء} اختلف في سبب النزول وملخصه: أنه لعن ناساً أو شخصاً عين أنه عتبة بن أبي وقاص، أو أشخاصاً دعا عليهم وعينوا: أبا سفيان، والحرث بن هشام، وصفوان بن أمية. أو قبائل عين منها: لحيان، ورعل، وذكوان، وعصية. أو هم بسبب الذين انهزموا يوم أحد، أو استأذن ربه أن يدعو. ودعا يوم أحد حين شجَّ في وجهه، وكسرت رباعيته، ورمي بالحجارة، حتى صرع لجنبه، فلحقه ناس من فلاحهم، ومال إلى أن يستأصلهم الله ويريح منهم، فنزلت. فعلى هذه الأسباب يكون معنى الآية: التوقيف على أن جميع الأمور إنما هي لله، فيدخل فيها هداية هؤلاء وإقرارهم على حالة. وفي خطابه: دليل على صدور أمر منه أو هم به، أو استئذان في الدعاء كما تقدّم ذكره، وأن عواقب الأمور بيد الله. قال الكوفيون: نسخت هذه الآية القنوت على رعل وذكوان وعصية وغيرهم من المشركين. وقال السخاوي: ليس هذا شرط الناسخ، لأنه لم ينسخ قرآناً.
{أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون} قيل: هو عطف على ما قبله من الأفعال المنصوبة. ويكون قوله: ليس لك من الأمر شيء جملة اعتراضية، والمعنى: أن الله مالك أمرهم، فإما أنْ يهلكهم، أو يهزمهم، أو يتوب عليهم إن أسلموا، أو يعذبهم إن أصروا على الكفر. وقيل: أن مضمرة بعد أو، بمعنى: إلا أن، وهي التي في قولهم: لألزمنك أو تقضيني حقي، والمعنى: أنه ليس له من أمرهم شيء إلا أن يتوب الله عليهم بالإسلام فيسر بهداهم، أو يعذبهم بقتل وأسر في الدنيا، أو بنار في الآخرة، فيستشفى بذلك ويستريح. وعلى هذا التأويل تكون الجملة المنفية للتأسيس، لا للتأكيد. وقيل: أو يتوب معطوف على الأمر. وقيل: على شيء. أي: ليس لك من الأمر، أو من توبتهم، أو تعذيبهم شيء. أو ليس لك من الأمر شيء أو توبتهم. والظاهر من هذه التخاريج الأربعة هو الأول. وأبعد من ذهب إلى أن قوله: ليس لك من الأمر، أي أمر الطائفتين اللتين همتا أن تفشلا.
وقال ابن بحر: من الأمر أي، من هذا النصر، وإنما هو من الله كما قال: {وما رميت إذ رميت} وقيل: المراد بالأمر أمر القتال. والظاهر الحمل على العموم، والأمور كلها لله تعالى.
وقرأ أبي: أو يتوب عليهم أو يعذبهم برفعهما على معنى: أو هو يتوب عليهم، ثم نبه على العلة المقتضية للتعذيب بقوله: فإنهم ظالمون، وأتى بأنْ الدالة على التأكيد في نسبة الظلم إليهم.
{ولله ما في السموات وما في الأرض} لمّا قدم ليس لك من الأمر شيء، بيَّن أن الأمور إنما هي لمن له الملك، والملك فجاء بهذه الجملة مؤكدة للجملة السابقة.
وتقدم شرح هذه الجملة. وما: إشارة إلى جملة العالم وما هيأته، فلذلك حسنت ما هنا.
{يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء} لما تقدّم قوله: أو يتوب عليهم أو يعذبهم، أتى بهذه الجملة موضحةً أن تصرفاته تعالى على وفق مشيئته، وناسب البداءة بالغفران، والإرداف بالعذاب ما تقدم من قوله: أو يتوب عليهم أو يعذبهم، ولم يشرط في الغفران هنا التوبة. إذ يغفر تعالى لمن يشاء من تائب وغير تائب، ما عدا ما استثناه تعالى من الشرك. وقال الزمخشري ما نصه عن الحسن رحمه الله: يغفر لمن يشاء بالتوبة، ولا يشاء أن يغفر إلا للتائبين. ويعذب من يشاء، ولا يشاء أن يعذب إلا المستوجبين للعذاب. وعن عطاء: يغفر لمن يتوب إليه، ويعذب من لقيه ظالماً وأتباعه قوله: أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون، تفسير بين لمن يشاء، فإنهم المتوب عليهم أو الظالمون. ولكن أهل الأهواء والبدع يتصامون ويتعامون عن آيات الله تعالى، فيخبطون خبط عشواء، ويطيبون أنفسهم بما يفترون. عن ابن عباس من قولهم: يهب الذنب الكبير لمن يشاء، ويعذب من يشاء على الذنب الصغير. انتهى كلامه. وهو مذهب المعتزلة. وذلك أن من مات مصراً على كبيرة لا يغفر الله له. وما ذكره عن الحسن لا يصح ألبتّة. ومذهب أهل السنة؛ أنّ الله تعالى يغفر لمن يشاء وإنْ مات مصرًّا على كبيرة غير تائب منها.
{والله غفور رحيم} في هذه الجملة ترجيح لجهة الإحسان والإنعام {يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافاً مضاعفة} قال ابن عطية: هذا النهي عن أكل الربا اعترض أثناء قصة أحد، ولا أحفظ شيئاً في ذلك مروياً انتهى.
ومناسبة هذه الآية لما قبلها ومجيئها بين أثناء القصة: أنّه لما نهى المؤمنين عن اتخاذ بطانة من غيرهم، واستطرد لذكر قصة أحد. وكان الكفار أكثر معاملاتهم بالربا مع أمثالهم ومع المؤمنين، وهذه المعاملة مؤدية إلى مخالطة الكفار، نهوا عن هذه المعاملة التي هي الربا قطعاً لمخالطة الكفار ومودّتهم، واتخاذ إخلاء منهم، لاسيما والمؤمنون في أول حال الإسلام ذوو إعسار، والكفار من اليهود وغيرهم ذوو يسار. وكان أيضاً أكل الحرام له مدخل عظيم في عدم قبول الأعمال الصالحة والأدعية، كما جاء في الحديث: «إن الله تعالى لا يستجيب لمن مطعمه حرام ومشربه حرام إذا دعا» «وأن آكل الحرام يقول إذا حج: لبيك وسعديك. فيقول الله له: لا لبيك ولا سعديك، وحجك مردود عليك» فناسب ذكر هذه الآية هنا.
وقيل: ناسب اعتراض هذه الجملة هنا أنه تعالى وعد المؤمنين بالنصر والإمداد مقروناً بالصبر والتقوى، فبدأ بالأهم منها وهو: ما كانوا يتعاطونه من أكل الأموال بالباطل، وأمر بالتقوى، ثم بالطاعة. وقيل: لما قال تعالى: {ولله ما في السموات وما في الأرض} وبيّن أنّ ما فيهما من الموجودات ملك له، ولا يجوز أنْ يتصرّف في شيء منها إلا بإذنه على الوجه الذي شرعه.
وآكلُ الربا متصرّف في ماله بغير الوجه الذي أمر، نبَّه تعالى على ذلك، ونهى عما كانوا في الإسلام مستمرّين عليه من حكم الجاهلية، وقد تقدم الربا في سورة البقرة.
وانتصب أضعافاً، فانهوا عن الحالة الشنعاء التي يوقعون الربا عليها، كان الطالب يقول: أتقضي أم تربي، وربما استغرق بالنزر اليسير مال المدين، لأنه إذا لم يجد وفاء زاد في الدين، وزاد في الأصل. وأشار بقوله: مضاعفة، إلى أنهم كانوا يكررون التضعيف عاماً بعد عام. والربا محرم جميع أنواعه، فهذه الحال لا مفهوم لها، وليست قيداً في النهي، إذ ما لا يقع أضعافاً مضاعفة مساوٍ في التحريم لما كان أضعافاً مضاعفة. وقد تقدم الكلام في نسبة الآكل إلى الربا في البقرة.
وقيل: المضاعفة منصرفة إلى الأموال. فإن كان الربا في السن يرفعونها ابنة مخاض بابنة لبون، ثم حقة، ثم جذعة، ثم رباع، هكذا إلى فوق. وإن كان في النقود فمائة إلى قابل بمائتين، فإن لم يوفهما فأربعمائة. والأضعاف: جمع ضعف، وهو من جموع القلة. فلذلك أردفه بالمضاعفة. {واتقوا الله لعلكم تفلحون} لما نهاهم عن أمر صعب عليهم فراقه وهو الربا، أمر بتقوى الله إذ هي الحاملة على مخالفة ما تعوده المرء مما نهى الشرع عنه. ثم ذكر أنّ التقوى سبب لرجاء الفلاح وهو الفوز، وأمر بها مطلقاً لا مقيداً بفعل الربا، لأنه لما نهى عن الربا كان المؤمنون أسرع شيء لطواعية الله تعالى، فلم يأت واتقوا الله في أكل الربا بل أمروا بالتقوى، لا بالنسبة إلى شيء خاص منعوه من جهة الشريعة. {واتقوا النار التي أعدت للكافرين} لما تقدم «واتقوا الله» والذوات لا تتقى، فإنما المتقي محذوف أوضحه في هذه الآية. فقال: واتقوا النار. والألف واللام في النار للجنس، فيجوز أن تكون النار التي وعد بها آكل الربا أخف من نار الكافر، أي أعدّ جنسها للكافرين. ويجوز أنّ تكون للعهد، فيكون آكل الربا قد توعد بالنار التي يعذب بها الكافر. وقيل: توعد أكلة الربا بنارالكفرة، إذ النار سبع طبقات: العليا منها وهي جهنم للعصاة، والخمس للكفار، والدرك الأسفل للمنافقين. فأكلة الربا يعذبون بنار الكفار، لا بنار العصاة. وقال ابن عباس: هذا تهديد للمؤمنين لئلا يستحلوا الربا.
وقال الزجاج: والمعنى واتقوا أن تحلوا ما حرم الله فتكفروا. وقيل: اتقوا العمل الذي ينزع منكم الإيمان وتستوجبون به النار. وكان أبو حنيفة يقول: هي أخوف آية في القرآن، حيث أوعد الله المؤمنين بالنار المعدة للكافرين إن لم يتقوه باجتناب محارمه. قال الزمخشري: وقد أمد ذلك أتبعه من تعليق رجاء المؤمن لرحمته بتوفرهم على طاعته وطاعة رسوله، ومن تأمل هذه الآيات وأمثالها لم يحدث نفسه بالأطماع الفارغة، والتمني على الله تعالى.
وفي ذكره تعالى لعل وعسى في نحو هذه المواضع، وإن قال الناس ما قالوا ما لا يخفى على العارف الفطن من دقة مسلك التقوى، وصعوبة إصابة رضا الله عز وجل، وعزّة التوصل إلى رحمته وثوابه انتهى. كلامه وهو جار على مذهبه من تقنيط العاصي غير التائب من رحمة ربه، وولوعه بمذهبه يجعله يحمل ألفاظ القرآن ما لا يحتمله، أو ما هو بعيد عنها. وتقدم شرح أعدت للكافرين في أوائل البقرة.
{وأطيعوا الله والرسول لعلكم ترحمون} قيل: أطيعوا الله في الفرائض، والرسول في السنن. وقيل: في تحريم الربا، والرسول فيما بلغكم من التحريم. وقيل: وأطيعوا الله والرسول فيما يأمركم به وينهاكم عنه. فإن طاعة الرسول طاعة الله قال تعالى: {من يطع الرسول فقد أطاع الله} وقال المهدوي: ذكر الرسول زيادة في التبيين والتأكيد والتعريف بأن طاعته طاعة الله. وقال ابن إسحاق: هذه الآية هي ابتداء المعاتبة في أمر أحد، وانهزام من فرَّ، وزوال الرماة من مركزهم. وقيل: صيغتها الأمر ومعناها العتب على المؤمنين فيما جرى منهم من أكل الربا، والمخالفة يوم أحد. والرحمة من الله إرادة الخير لعبيده، أو ثوابهم على أعمالهم.
وقد تضمنت هذه الآيات ضروباً من الفصاحة والبديع. من ذلك العام المراد به الخاص: في من أهلك، قال الجمهور: أراد به بيت عائشة. فالاختصاص في: والله سميع عليم، وفي: فليتوكل المؤمنون، وفي: ما في السموات وما في الأرض، وفي: يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء خص نفسه بذلك كقوله: {ومن يغفر الذنوب إلا الله} {نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم} وفي {العزيز الحكيم} لأن العز من ثمرات النصر، والتدبير الحسن من ثمرات الحكمة.
والتشبيه: في ليقطع طرفاً، شبه من قتل منهم وتفرّق بالشيء المقتطع الذي تفرقت أجزاؤه وانخرم نظامه، وفي: ولتطمئن قلوبكم شبه زوال الخوف عن القلب وسكونه عن غليانه باطمئنان الرّجل الساكن الحركة. وفي: فينقلبوا خائبين شبه رجوعهم بلا ظفر ولا غنيمة بمن أمل خيراً من رجل فأمّه، فأخفق أمله وقصده. والطباق: في نصركم وأنتم أذلة، النصر إعزاز وهو ضد الذل. وفي: يغفر ويعذب، الغفران ترك المؤاخذة والتعذيب المؤاخذة بالذنب. والتجوز بإطلاق التثنية على الجمع في: أن يفشلا. وبإقامة اللام مقام إلى في: ليس لك أي إليك، أو مقام على: أي ليس عليك. والحذف والاعتراض في مواضع اقتضت ذلك والتجنيس المماثل في: أضعافاً مضاعفة. وتسمية الشيء بما يؤول إليه في: لا تأكلوا سمَّى الأخذ أكلاً، لأنه يؤول إليه.

.تفسير الآيات (133- 141):

{وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134) وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135) أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (136) قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (137) هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (138) وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139) إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140) وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ (141)}
الكظم: الإمساك على غيظ وغم. والكظيم: الممتلئ أسفار، وهو المكظوم. وقال عبد المطلب:
فحضضت قومي واحتسبت قتالهم ** والقوم من خوف المنايا كظم

وكظم الغيظ رده في الجوف إذا كان يخرج من كثرته، فضبطه ومنعه كظم له. ويقال: كظم القربة إذا شدّها وهي ملأى. والكظام: السير الذي يشد به فمها. وكظم البعير: جرته ردها في جوفه، أو حبسها قبل أن يرسلها إلى فيه. ويقال: كظم البعير والناقة إذا لم يجترا، ومنه قول الراعي:
فأفضن بعد كظومهن بجرة ** من ذي الأباطح أذرعين حقيلا

الحقيل: موضع، والحقيل أيضاً نبت. ويقال: لا تمنع الإبل جرتها إلا عند الجهد والفزع، فلا تجتر. ومنه قول أعشى باهلة يصف نحار الإبل:
قد تكظم البذل منه حين تبصره ** حتى تقطع في أجوافها الجرر

الإصرار: اعتزام الدوام على الأمر. وترك الإقلاع عنه، من صرّ الدنانير ربط عليها. وقال أبو السمال:
علم الله أنها مني صرى

أي عزيمة وقال الحطيئة يصف الخيل:
عوابس بالشعث الكماة إذا ابتغوا ** علاليها بالمحضرات أصرت

أي ثبتت على عدوها. وقال آخر:
يصر بالليل ما تخفى شواكله ** يا ويح كل مصر القلب ختار

السنة: الطريقة. وقال المفضل: الأمة وأنشد:
ما عاين الناس من فضل كفضلكم ** ولا رؤى مثله في سالف السنن

وسنة الإنسان الشيء الذي يعمله ويواليه، كقول خالد الهذلي لأبي ذؤيب:
فلا تجزعن من سنة أنت سرتها ** فأول راض سنة من يسيرها

وقال سليمان بن قتيبة:
وإن الألى بالطف من آل هاشم ** تأسوا فسنوا للكرام التأسيا

وقال لبيد:
من أمة سنت لهم آباؤهم ** ولكل قوم سنة وإمامها

وقال الخليل: سن الشيء صورة. والمسنون المصور، وسن عليهم شراً صبه، والماء والدرع صبهما. واشتقاق السنة يجوز أن يكون من أحد هذين المعنيين، أو من سن السنان والنصل حدهما على المسن، أو من سن الإبل إذا أحسن رعيها. السير في الأرض: الذهاب.
وهن الشيء ضعف، ووهنه الشيء أضعفه. يكون متعدياً ولازماً. وفي الحديث: «وهنتهم حمى يثرب والوهن» والوهن الضعف. وقال زهير:
فأصبح الحبل منها واهناً خلقا

القرح والقرح لغتان، كالضعف والضعف، والكره والكره: الفتحُ لغة الحجاز: وهو الجرح. قال حندج:
وبدلت قرحاً دامياً بعد صحة ** لعل منايانا تحولن أبؤسا

وقال الأخفش: هما مصدران. ومن قال: القَرح بالفتح الجرح، وبالضم المد، فيحتاج في ذلك إلى صحة نقل عن العرب. وأصل الكلمة الخلوص، ومنه: ماء قراح لا كدورة فيه، وأرض قراح خالصة الطين، وقريحة الرجل خالصة طبعه.
المداولة: المعاودة، وهي المعاهدة مرة بعد مرة. يقال: داولت بينهم الشيء فتداولوه. قال:
يرد المياه فلا يزال مداويا ** في الناس بين تمثل وسماع

وأدلته جعلت له دولة وتصريفاً، والدولة بالضم المصدر، وبالفتح الفعلة الواحدة، فلذلك يقال: في دولة فلان، لأنها مرة في الدهر. والدور والدول متقاربان، لكن الدور أعم. فإن الدولة لا تقال إلا في الحظ الدنيوي.
المحص كالفحص، لكن الفحص يقال في إبراز الشيء عن خلال أشياء منفصلة عنه. والمحص عن إبرازه عن أشياء متصلة به. قال الخليل: التمحيص التخليص عن العيوب، ويقال: محص الحبل إذا زال عنه بكثرة مره على اليد زبيره وأملس، هكذا ساق الزجاج اللفظة الحبل. ورواها النقاش: محص الجمل إذا زال عنه وبره وأملس. وقال حنيف الحناتم: وقد ورد ماء اسمه طويلع، إنك لمحص الرشاء، بعيد المستقى، مطل على الأعداء. المعنى: أنه لبعده يملس حبله بمر الأيدي. {وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين} قرأ ابن عامر ونافع: سارعوا بغير واو على الاستئناف، والباقون بالواو على العطف. لما أمروا بتقوى النار أمروا بالمبادرة إلى أسباب المغفرة والجنة. وأمال الدوري في قراءة الكسائي: وسارعوا لكسرة الراء. وقرأ أبي وعبد الله: وسابقوا والمسارعة: مفاعلة. إذ الناس كل واحد منهم ليصل قبل غيره فبينهم في ذلك مفاعلة. ألا ترى إلى قوله: {فاستبقوا الخيرات} والمسارعة إلى سبب المغفرة وهو الإخلاص، قاله عثمان. أو أداء الفرائض قاله علي. أو الإسلام قاله: ابن عباس. أو التكبيرة الأولى من الصلاة مع الإمام قاله: أنس ومكحول. أو الطاعة قاله: سعيد بن جبير. أو التوبة قاله: عكرمة. أو الهجرة قاله: أبو العالية. أو الجهاد قاله: الضحاك. أو الصلوات الخمس قاله: يمان. أو الأعمال الصالحة قاله: مقاتل. وينبغي أن تحمل هذه الأقوال على التمثيل لا على التعيين والحصر.
قال الزمخشري: ومعنى المسارعة إلى المغفرة والجنة الإقبال على ما يستحقان به انتهى. وفي ذكر الاستحقاق دسيسة الاعتزال، وتقدم ذكر المغفرة على الجنة لأنها السبب الموصل إلى الجنة، وحذف المضاف من السموات أي: عرض السموات بعد حذف أداة التشبيه أي: كعرضٍ. وبعد هذا التقدير اختلفوا، هل هو تشبيه حقيقي؟ أو ذهب به مذهب السعة العظيمة؟ لما كانت الجنة من الاتساع والانفساح في الغاية القصوى، إذ السموات والأرض أوسع ما علمه الناس من مخلوقاته وأبسطه، وخص العرض لأنه في العادة أدنى من الطول للمبالغة، فعلى هذا لا يراد عرض ولا طول حقيقة قاله: الزجاج. وتقول العرب: بلاد عريضة، أي واسعة. وقال الشاعر:
كأن بلاد الله وهي عريضة ** على الخائف المطلوب كفة حابل

والقول الأول مروي عن ابن عباس وغيره. قال ابن عباس وسعيد بن جبير: والجمهور تقرن السموات والأرض بعضها إلى بعض كما تبسط الثياب، فذلك عرض الجنة، ولا يعلم طولها إلا الله انتهى ولا ينكر هذا. فقد ورد في الحديث في وصف الجنة وسعتها ما يشهد لذلك.
وأورد ابن عطية من ذلك أشياء في كتابه. والجنة على هذا القول أكبر من السموات، وهي ممتدّة في الطول حيث شاء الله. وخص العرض بالذكر لدلالته على الطول، والطول إذا ذكر لا يدل على سعة العرض، إذ قد يكون العرض يسيراً كعرض الخيط.
وقال قوم: معناه كعرض السموات والأرض طباقاً، لا بأنْ تقرب كبسط الثياب. فالجنة في السماء وعرضها كعرضها، وعرض ما وازاها من الأرضين إلى السابعة، وهذه دلالة على العظيم. وأغنى ذكر العرض عن ذكر الطول. وقال ابن فورك: الجنة في السماء، ويزاد فيها يوم القيامة، وتقدم الكلام في الجنة أخلقت؟ وهو ظاهر القرآن. ونص الآثار الصحيحة النبوية أم لم تخلق بعدُ؟ وهو قول: المعتزلة، ووافقهم من أهل بلادنا القاضي منذر بن سعيد. وأما قول ابن فورك أنه يزاد فيها فيحتاج إلى صحة نقل عن النبي صلى الله عليه وسلم. وقال الكلبي: الجنان أربع: جنة عدن، وجنة المأوى، وجنة الفردوس، وجنة النعيم. كل جنة منها كعرض السماء والأرض، لو وصل بعضها ببعض ما علم طولها إلا الله. وقال ابن بحر: هو من عرض المتاع على البيع، لا العرض المقابل للطول. أي لو عورضت بها لساوها نصيب كل واحد منكم، وجاء إعدادها للمتقين فخصوا بالذكر تشريفاً لهم، وإعلاماً بأنهم الأصل في ذلك، وغيرهم تبع لهم في إعدادها. وإن أريد بالمتقين متقو الشرك كان عاماً في كل مسلم طائع أو عاص. {الذين ينفقون في السراء والضراء} قال ابن عباس والكلبي ومقاتل: السراء اليسر، والضراء العسر. وقال عبيد بن عمير والضحاك: الرخاء والشدّة. وقيل: في الحياة، وبعد الموت بأن يوصي. وقيل: في الفرح وفي الترح. وقيل: فيما يسرّ كالنفقة على الولد والقرابة، وفيما يضر كالنفقة على الأعداء. وقيل: في ضيافة الغني والإهداء إليه، وفيما ينفقه على أهل الضر ويتصدّق به عليهم. وقيل: في المنشط والمكره. ويحتمل التقييد بهاتين الحالتين، ويحتمل أن يعني بهما جميع الأحوال، لأن هاتين الحالتين لا يخلو المنفق أن يكون على إحداهما. والمعنى: لا يمنعهم حال سرور ولا حال ابتلاء عن بذل المعروف. وروي عن عائشة أنها تصدّقت بحبة عنب. وعن بعض السلف ببصلة. وابتدئ بصفة التقوى الشاملة لجميع الأوصاف الشريفة، ثم جيء بعدها بصفة البذل، إذ كانت أشق على النفس وأدل على الإخلاص. وأعظم الأعمال للحاجة إلى ذلك في الجهاد، ومواساة الفقراء. ويجوز في الدين الاتباعُ والقطعُ للرفع والنصب.
{والكاظمين الغيظ} أي الممسكين ما في أنفسهم من الغيظ بالصبر، ولا يظهر له أثر، والغيظ: أصل الغضب، وكثيراً ما يتلازمان، ولذلك فسره بعضهم هنا بالغضب.
والغيظ فعل نفساني لا يظهر على الجوارح، والغضب فعل لها معه ظهور في الجوارح، وفعل مّا ولا بد، ولذلك أسند إلى الله تعالى إذ هو عبارة عن أفعاله في المغضوب عليهم، ولا يسند الغيظ إليه تعالى.
ووردت أحاديث في كظم الغيظ وهو من أعظم العبادة. وروي عنه صلى الله عليه وسلم: «من كظم غيظاً وهو يقدر على إنفاذه ملأه الله أمناً وإيماناً» وعنه عليه السلام: «ما من جرعة يتجرعها العبد خير له وأعظم أجراً من جرعة غيظ في الله» وعن عائشة أن خادماً لها غاظها فقالت: لله در التقوى ما تركت لذي غيظ شفاء. وقال مقاتل: بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في هذه الآية: «إن هذه في أمّتي لقليل وقد كانوا أكثر في الأمم الماضية» وأنشد أبو القاسم بن حبيب:
وإذا غضبت فكن وقوراً كاظماً ** للغيظ تبصر ما تقول وتسمع

فكفى به شرفاً تصبر ساعة ** يرضى بها عنك الإله ويدفع

{والعافين عن الناس} أي الجناة والمسيئين. وقال ابن عباس وأبو العالية والربيع: المماليك. وهذا مثال، إذ الأرقاء تكثر ذنوبهم لجهلهم وملازمتهم، وإنفاذ العقوبة عليهم سبيل للقدرة عليهم. وقال الحسن: والكاظمين الغيظ عن الأرقاء، والعافين عن الناس إذا جهلوا عليهم. ووردت أخبار نبوية في العفو منها: «ينادي مناد يوم القيامة أين الذين كانت أجورهم على الله فليدخلوا الجنة، فيقال: من ذا الذي أجره على الله فلا يقوم إلا من عفا» ورواه أبو سفيان للرشيد وقد غضب على رجل فخلاه. ويجوز في الكاظمين والعافين القطع إلى النصب والاتباع، بشرط اتباع الذين ينفقون {والله يحب المحسنين} الألف واللام للجنس، فيتناول كل محسن. أو للعهد فيكون ذلك إشارة إلى من تقدّم ذكره من المتصفين بتلك الأوصاف. والأظهر الأول، فيعم هؤلاء وغيرهم. وهذه الآية في المندوب إليه. ألا ترى إلى حديث جبريل عليه السلام: «ما الإيمان» فبين له العقائد «ما الإسلام»؟ فبين له الفرائض. «ما الإحسان؟» قال: «أن تعبد الله كأنك تراه» والمعنى: أن الله يحب المحسنين، وهم الذين يوقعون الأعمال الصالحة، مراقبين الله كأنهم مشاهدوه. وقال الحسن: الإحسان أن تعم ولا تخص، كالريح والمطر والشمس والقمر. وقال الثوري: الإحسان أن تحسن إلى المسيء، فإنَّ الإحسان إليه مناجزة كنقد السوق، خذ مني وهات.
{والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم} نزلت في قول الجمهور بسبب منهال التمار، ويكنى: أبا مقبل، أتته امرأة تشتري منه تمراً فضمها وقبلها ثم ندم. وقيل: ضرب على عجزها.
والعطف بالواو مشعر بالمغايرة. لمّا ذكر الصنف الأعلى وهم المتقون الموصوفون بتلك الأوصاف الجميلة، ذكر مَنْ دونهم ممن قارف المعاصي وتاب وأقلع، وليس من باب عطف الصفات واتحاد الموصوف. وقيل: أنه من عطف الصفات، وأنه من نعت المتقين روى ذلك عن الحسن.
قال ابن عباس: الفاحشة الزنا، وظلم النفس ما دونه من النظر واللمسة. وقال مقاتل: الفاحشة الزنا، وظلم النفس سائر المعاصي. وقال النخعي: الفاحشة القبائح، وظلم النفس من الفاحشة وهو لزيادة البيان. وقيل: جميع المعاصي وظلم النفس العمل بغير علم ولا حجة. وقال الباقر: الفاحشة النظر إلى الأفعال، وظلم النفس رؤية النجاة بالأعمال. وقيل: الفاحشة الكبيرة، وظلم النفس الصغيرة. وقيل: الفاحشة ما تظوهر به من المعاصي، وقيل: ما أخفى منها. وقال مقاتل والكلبي: الفاحشة ما دون الزنا من قبله أو لمسة أو نظرة فيما لا يحل، وظلم النفس بالمعصية، وقيل: الفاحشة الذنب الذي فيه تبعة للمخلوقين، وظلم النفس ما بين العبد وبين ربه. وهذه تخصيصات تحتاج إلى دليل. وكثر استعمال الفاحشة في الزنا، ولذلك قال جابر حين سمع الآية: زنوا ورب الكعبة.
ومعنى {اذكروا الله} ذكروا وعيده قاله: ابن جرير وغيره. وقيل: العرض على الله قاله الضحاك. أو السؤال عنه يوم القيامة قاله: الكلبي ومقاتل والواقدي. وقيل: نهي الله. وقيل: غفرانه. وقيل: تعرضوا لذكره بالقلوب ليبعثهم على التوبة. وقيل: عظيم عفوه فطمعوا في مغفرته. وقيل: إحسانه فاستحيوا من إساءتهم. وهذه الأقوال كلها على أن الذكر هو بالقلب. وقيل: هو باللسان، وهو الاستغفار. ذكروا الله بقلوبهم: اللهم اغفر لنا ذنوبنا، قاله: ابن مسعود، وأبو هريرة، وعطاء في آخرين. وروي عن أبي هريرة «ما رأيت أكثر استغفاراً من رسول الله صلى الله عليه وسلم» ولابد مع ذكر اللسان من مواطأة القلب، وإلاّ فلا اعتبار بهذا الاستغفار. ومن استغفر وهو مصرّفاً فاستغفاره يحتاج إلى استغفار. والاستغفار سؤال الله بعد التوبة الغفران.
وقيل: ندموا وإن لم يسألوا. والظاهر الأول. ومفعول استغفروا الله محذوف لفهم المعنى، أي فاستغفروا لذنوبهم. وتقدم الكلام على هذا الفعل وتعديته.
{ومن يغفر الذنوب إلا الله} جملة اعتراض المتعاطفين، أو بين ذي الحال والحال. وتقدم الكلام على نظير هذه الجملة إعراباً في قوله: {ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه} وهذه الجملة الاعتراضية فيها ترفيق للنفس، وداعية إلى رجاء الله وسعة عفوه، واختصاصه بغفران الذنب. قال الزمخشري: وصف ذاته بسعة الرحمة وقرب المغفرة، وأنَّ التائب من الذنب عنده كمن لا ذنب له، وأنّه لا مفزع للمذنبين إلا فضله وكرمه، وأنّ عدله يوجب المغفرة للتائب، لأنّ العبد إذا جاء في الاعتذار والتنصل بأقصى ما يقدر عليه وجب العفو والتجاوز. وفيه تطييب لنفوس العباد، وتنشيط للتوبة وبعث عليها، وردع عن اليأس والقنوط. وأنّ الذنوب وإنْ جلت فإنَّ عفوه أجل، وكرمه أعظم. والمعنى: أنه وحده معه مصححات المغفرة انتهى. وهو كلام حسن، غير أنه لم يخرج عن ألفاظ المعتزلة في قوله: وإنّ عدله يوجب المغفرة للتائب.
وفي قوله: وجب العفو والتجاوز، ولو لم نعلم أن مذهبه الاعتزال لتأولنا كلامه بأن هذا الوجوب هو بالوعد الصادق، فهو من جهة السمع لا من جهة العقل فقط.
{ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون} أي ولم يقيموا على قبيح فعلهم. وهذه الجملة معطوفة على فاستغفروا، فهي من بعض أجزاء الجزاء المترتب على الشرط. ويجوز أن تكون الواو للحال ويكون حالاً من الفاعل في فاستغفروا فهي من بعض أجزاء الجزاء، أي: فاستغفروا لذنوبهم غير مصرّين. وما موصولة اسمية، ويجوز أن تكون مصدرية.
قال قتادة: الإصرار المضي في الذنب قدماً. وقال الحسن: هو إتيان الذنب حتى يتوب. وقال مجاهد: لم يصرّوا لم يمضوا. وقال السدي: هو ترك الاستغفار والسكوت عنه مع الذنب. والجملة من قوله: {وهم يعلمون} قال الزمخشري: حال من فعل الإصرار، وحرف النفي منصب عليهما معاً، والمعنى: وليسوا ممن يصرّ على الذنوب وهم عالمون بقبحها وبالنهي عنها والوعيد عليها، لأنه قد يعذر من لم يعلم قبح القبيح.
وفي هذه الآيات بيان قاطع أن الذين آمنوا على ثلاث طبقات: متقون، وتائبون، ومصرّون. وأن الجنة للمتقين والتائبين منهم دون المصرين، ومن خالف في ذلك فقد كابر عقله وعاند ربه انتهى كلامه. وآخره على طريقته الاعتزالية من: أن من مات مصرًّا دخل النار ولا يخرج منها أبداً. وأجاز أبو البقاء أن يكون: وهم يعلمون حالاً من الضمير في فاستغفروا، فإنْ أعربنا ولم يصرّوا جملة حالية من الضمير في فاستغفروا، جاز أن يكون: وهم يعلمون حالاً منه أيضاً. وإن كان ولم يصروا معطوفاً على فاستغفروا كان ما قاله أبو البقاء بعيداً للفصل بين ذي الحال والحال بالجملة. وأما متعلق العلم فتقدم في كلام الزمخشري.
وقال أبو البقاء: وهم يعلمون المؤاخذة بها، أو عفو الله عنها. وقال ابن عباس والحسن: وهم يعلمون أن تركه أولى من التمادي. وقال مجاهد وأبو عمارة: يعلمون أن الله يتوب على من تاب. وقال السدي ومقاتل: يعلمون أنهم قد أذنبوا. وقيل: يذكرون ذنوبهم فيتوبون منها، أطلق اسم العلم على الذكر لأنه من ثمرته. وقال ابن إسحاق: يعلمون ما حرمت عليهم. وقال الحسين بن الفضل: يعلمون أنّ لهم رباً يغفر الذنب. وقال ابن بحر: يعلمون بالذنب. وقيل: يعلمون العفو عن الذنوب وإن كثرت.
{أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم وجنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها} أولئك إشارة إلى الصنفين. وجوّز أن يكون مختصاً بالصنف الثاني، ويكون: والذين إذا فعلوا مبتدأ، وأولئك وما بعده خبره، وجزاؤهم مغفرة مبتدأ وخبر في موضع خبر أولئك. وثم محذوف أي: جزاء أعمالهم مغفرة من ربهم لذنوبهم.
وقال ابن عطية: أوجب على نفسه بهذا الخبر الصادق قبول توبة التائب، وليس يجب عليه تعالى من جهة العقل شيء، بل هو بحكم الملك لا معقب لأمره.
وقال الزمخشري: قال أجر العاملين بعد قوله جزاؤهم، لأنهما في معنى واحد، وإنما خالف بين اللفظين لزيادة التنبيه على أن ذلك جزاء واجب على عمل، وأجر مستحق عليه، لا كما يقول المبطلون. وروي أن الله عزّ وجل أوحى إلى موسى عليه السلام: ما أقلَّ حياء من يطمعُ في جنتي بغير عمل، كيف أجود برحمتي على من يبخل بطاعتي؟ وعن شهر بن حوشب: طلب الجنة بلا عمل ذنب من الذنوب، وانتظار الشفاعة بلا سبب نوع من الغرور، وارتجاء الرحمة ممن لا يطاع حمق وجهالة. وعن الحسن يقول الله يوم القيامة: جوزوا الصراط بعفوي، وادخلوا الجنة برحمتي، واقتسموها بأعمالكم. وعن رابعة البصرية أنها كانت تنشد:
ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها ** إن السفينة لا تجري على اليبس

انتهى ما ذكره، والبيت الذي كانت رابعة تنشده هو لعبد الله بن المبارك. وكلام الزمخشري جار على مذهبه الاعتزال من أن الإيمان دون عمل لا ينفع في الآخرة.
{ونعم أجر العاملين} المخصوص بالمدح محذوف تقديره: ونعم أجر العاملين ذلك، أي المغفرة والجنة {قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين} الخطاب للمؤمنين، والمعنى: أنه إنْ ظهر عليكم الكفار يوم أحد فإن حسن العاقبة للمتقين، وإنْ أديل الكفار فالعاقبة للمؤمنين. وكذلكم كفاركم هؤلاء عاقبتهم إلى الهلاك. وقال النقاش: الخطاب للكفار لقوله بعد {ولا تهنوا} ولما ذكر تعالى الجمل المعترضة في قصة أحد عاد إلى كمالها، فخاطبهم بأنه إنْ وقعت إدالة الكفار فالعاقبة للمؤمنين. والمعنى: قد تقدّمت ومضت.
وقال الزجاج: أهل سنن أي طرائق أو أمم، على شرح المفضل أنّ السنة الأمة. وقال الحسن: سنة أقضية في إهلاك الأمم السالفة عاد وثمود وغيرهم. وقال ابن زيد: أمثال. وقال ابن عباس: وقائع وطلب السير في الأرض، وإن كانت أحوال من تقدّم تدرك بالأخبار دون السير. لأن الأخبار إنما تكون ممن سار وعاين، وعنه ينقل: فطلب منه الوجه الأكمل إذ للمشاهدة أثر أقوى من أثر السماع. وقيل: السير هنا مجاز عن التفكر، وهو من تشبيه المعقول بالمحسوس. وقال الجمهور: النظر هنا من نظر العين. وقال قوم: هو بالفكر. والجملة الاستفهامية في موضع المفعول لانظروا لأنها معلقة وكيف في موضع نصب خبر كان. والمعنى: ما سنة الله في الأمم المكذبين من وقائعه كما قال تعالى: {فكلاًّ أخذنا بذنبه} {وقتلوا تقتيلاً سنة الله في الذين خلوا من قبل}
وفي هذه الآية دلالة على جواز السفر في فجاج الأرض للاعتبار، ونظر ما حوت من عجائب مخلوقات الله تعالى، وزيارة الصالحين وزيارة الأماكن المعظمة كما يفعله سيّاح هذه الملة، وجواز النظر في كتب المؤرخين لأنها سبيل إلى معرفة سير العالم وما جرى عليهم من المثلاث.
{هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين} قال الحسن وقتادة وابن جريج والربيع: الإشارة إلى القرآن. وقيل: الإشارة إلى قوله: {قد خلت من قبلكم سنن} قاله: ابن إسحاق، والطبري، وجماعة. أيْ هذا تفسير للناس إنْ قبلوه. وقال الشعبي: هذا بيان للناس من العمى. وقال الزمخشري: هذا بيان للناس، إيضاح لسوء عاقبة ما هم عليه من التكذيب. يعني: حثهم على النظر في سوء عواقب المكذبين قبلهم، والاعتبار بما يعاينون من آثار هلاكهم. {وهدى وموعظة للمتقين} يعني: أنه مع كونه بياناً وتنبيهاً للمكذبين فهو زيادة وتثبيت وموعظة للذين اتقوا من المؤمنين. ويجوز أنْ يكون قد خلت جملة معترضة للبعث على الإيمان، وما يستحق به ما ذكر من أجر العاملين. ويكون قوله: هذا بيان إشارة إلى ما لخص وبين من أمر المتقين والتائبين والمصرين انتهى كلامه. وهو حسن. ولما كان ظاهراً واضحاً قال: بيان للناس. ولما كانت الموعظة والهدى لا يكونان إلاّ لمَنْ اتقى خص بذلك المتقين، لأن من عمى فكره وقسا فؤاده لا يهتدي ولا يتعظ، فلا يناسب أن يضاف إليه الهدى والموعظة.
{ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين}. لمّا انهزَم مَن انهزم من المؤمنين أقبل خالدٌ يريد أنْ يعلوَ الجبل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يعلن علينا اللهم لا قوة لنا إلا بك» فنزلت قاله: ابن عباس. وزاد الواقدي: أنّ رماة المسلمين صعدوا الجبل ورموا بحبل المشركين حتى هزموهم، فذلك قوله: {وأنتم الأعلون}. وقال القرطبي: وأنتم الغالبون بعد أحد، فلم يخرجوا بعد ذلك إلا ظفروا في كل عسكر كان في عهده عليه السلام، وفي كل عسكر كان بعدُ ولو لم يكن فيه إلاّ واحدٌ من الصحابة. وقال الكلبي: نزلت بعد أحد حين أمروا بطلب القوم مع ما أصابهم من الجراح. وقال: لا يخرج إلاّ من شهد معنا أمس، فاشتدّ ذلك على المسلمين فنزلت. نهاهم عن أن يضعفوا عن جهاد أعدائهم، وعن الحزن على من استشهد من إخوانهم، فإنّهم صاروا إلى كرامة الله قاله: ابن عباس. أو لأجل هزيمتهم وقتلهم يوم أحد قاله: مقاتل. أو لما أصاب النبي صلى الله عليه وسلم من شجّه وكسر رباعيته ذكره: الماوردي. أو لما فات من الغنيمة ذكره: أحمد النيسابوري. أو لمجموع ذلك. وآنسهم بقوله: وأنتم الأعلون، أي الغالبون وأصحاب العاقبة. وهو إخبار بعلو كلمة الإسلام قاله: الجمهور، وهو الظاهر.
وقيل: {أنتم الأعلون}، أي قد أصبتم ببدر ضعف ما أصابوا منكم بأحد أسراً وقتلاً فيكونُ وأنتم الأعلون نصباً على الحال، أي لا تحزنوا عالين أي منصورين على عدوكم انتهى. وأما كونُه من علوهم الجبل كما أشير إليه في سبب النزول فروي ذلك عن ابن عباس وابن جبير.
قال ابن عطية: ومن كرم الخلق أن لا يهن الإنسان في حربه وخصامه، ولا يلين إذا كان محقاً، وأن يتقصى جميع قدرته، ولا يضرع ولو مات. وإنما يحسن اللين في السلم والرضا، ومنه قوله عليه السلام: «المؤمن هين لين والمؤمنون هينون لينون» وقال منذر بن سعيد: يجب بهذه الآية ألا يوادع العدو ما كانت للمسلمين قوة وشوكة، فإن كانوا في قطر مّا على غير ذلك فينظر الإمام لهم في الأصلح انتهى.
وفي قوله: وأنتم الأعلون دلالة على فضيلة هذه الأمة، إذ خاطبهم مثل ما خاطب موسى كليمه صلى الله عليه وسلم على نبينا وعليه، إذ قال له: لا تخف إنك أنت الأعلى. وتعلق قوله: إن كنتم مؤمنين بالنهي، فيكون ذلك هزاً للنفوس يوجب قوة القلب والثقة بصنع الله، وقلة المبالاة بالأعداء. أو بالجملة الخبرية: أي إنْ صدقتم بما وعدكم وبشركم به من الغلبة. ويكون شرطاً على بابه يحصل به الطعن على من ظهر نفاقه في ذلك اليوم، أي: لا تكون الغلبة والعلو إلا للمؤمنين، فاستمسكوا بالإيمان.
{إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله} المعنى: إن نالوا منكم يوم أحد فقد نلتم منهم يوم بدر، ثم لم يضعفوا إنْ قاتلوكم بعد ذلك، فلا تضعفوا أنتم. أو فقد مس القوم في غزوة أحد قبل مخالفة أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحوه، فإنهم يألمون كما تألمون، وترجون من الله ما لا يرجون. وهذه تسلية منه تعالى للمؤمنين والتأسي فيه أعظم مسلاة. وقالت الخنساء:
ولولا كثرة الباكين حولي ** على إخوانهم لقتلت نفسي

وما يبكون مثل أخي ولكن ** أعزي النفس عنه بالتأسي

والمثلية تصدق بأدنى مشابهة. وقال ابن عباس والحسن: أصاب المؤمنين يوم أحد ما أصاب المشركين يوم بدر، استشهد من المؤمنين يوم أحد سبعون. وقال الزمخشري: قتل يومئذ أي يوم أحد خلق من الكفار، ألا ترى إلى قوله تعالى: {إذ تحسونهم بإذنه} فعلى قوله يكون مس القوم قرح مثله يوم بدر. وأبعد من ذهب إلى أن القوم هنا الأمم التي قد خلت، أي نال مؤمنهم من أذى كافرهم مثل الذي نالكم من أعدائكم. ثم كانت العاقبة للمؤمنين، فلكم بهم أسوة. فإنّ تأسيكم بهم مما يخفف ألمكم، ويثبت عند اللقاء أقدامكم.
وقرأ الإخوان وأبو بكر والأعمش من طريقة قُرح بضم القاف فيهما، وباقي السبعة بالفتح، والسبعة على تسكين الراء. قال أبو علي: والفتح أولى انتهى. ولا أولوية إذ كلاهما متواتر. وقرأ أبو السمال وابن السميفع قَرَحَ بفتح القاف والراء، وهي لغة: كالطرد والطرد، والشل والشلل. وقرأ الأعمش: إنْ تمسسكم بالتاء من فوق قروح بالجمع، وجواب الشرط محذوف تقديره: فتأسوا فقد مس القوم قرح، لأن الماضي معنى يمتنع أن يكون جواباً للشرط.
ومن زعم أن جواب الشرط هو فقد مس، فهو ذاهل.
{وتلك الأيام نداولها بين الناس} أخبر تعالى على سبيل التسلية أن الأيام على قديم الدهر لا تبقي الناس على حالة واحدة. والمراد بالأيام أوقات الغلبة والظفر، يصرفها الله على ما أراد تارة لهؤلاء وتارة لهؤلاء، كما جاء الحرب سجال. وقال:
فيوم علينا ويوم لنا ** ويوم نساء ويوم نسر

وسمع بعض العرب الأقحاح قارئاً يقرأ هذه الآية فقال: إنما هو نداولها بين العرب، فقيل له: إنما هو بين الناس، فقال: أنا الله، ذهب ملك العرب ورب الكعبة. وقرئ شاذاً. يداً، ولها بالياء. وهو جار على الغيبة قبله وبعده. وقراءة النون فيها التفات، وإخبار بنون العظمة المناسبة لمداولة الأيام، والأيام: صفة لتلك، أو بدل، أو عطف بيان. والخبر نداولها، أو خبر لتلك، ونداولها جملة حالية.
{وليعلم الله الذين آمنوا} هذه لام كي قبلها حرف العطف، فتتعلق بمحذوف متأخر أي: فعلنا ذلك وهو المداولة، أو نيل الكفار منكم. أو هو معطوف على سبب محذوف هو وعامله أي: فعلنا ذلك ليكون كيت وكيت وليعلم. هكذا قدّره الزمخشري وغيره، ولم يعين فاعل العلة المحذوفة إنما كنى عنه بكيت وكيت، ولا يكنى عن الشيء حتى يعرف. ففي هذا الوجه حذف العلة، وحذف عاملها، وإبهام فاعلها. فالوجه الأول أظهر إذ ليس فيه غير حذف العامل. ويعلم هنا ظاهره التعدي إلى واحد، فيكون كعرف. وقيل: يتعدّى إلى اثنين، الثاني محذوف تقديره: مميزين بالإيمان من غيرهم. أي الحكمة في هذه المداولة: أنْ يصير الذين آمنوا متميزين عن من يدعي الإيمان بسبب صبرهم وثباتهم على الإسلام.
وعلم الله تعالى لا يتجدد، بل لم يزل عالماً بالأشياء قبل كونها، وهو من باب التمثيل بمعنى فعلنا ذلك فعْلَ مَنْ يريد أن يعلم من الثابت على الإيمان منكم من غير الثابت. وقيل: معناه ليظهر في الوجود إيمان الذين قد علم أزلاً أنهم يؤمنون، ويساوق علمه إيمانهم ووجودهم، وإلا فقد علمهم في الأزل. إذْ علمه لا يطرأ عليه التغير. ومثلُه أن يضرب حاكم رجلاً ثم يبين سبب الضرب ويقول: فعلت هذا التبيين لا ضرب مستحقاً معناه: ليظهر أن فعلي وافق استحقاقه. وقيل: معناه وليعلمهم علماً يتعلق به الجزاء، وهو أن يعلمهم موجوداً منهم الثبات. وقيل: العلم باق على مدلوله، وهو على حذف مضاف التقدير: وليعلم أولياء الله، فأسند ذلك إلى نفسه تفخيماً. {ويتخذ منهم شهداء} أي بالقتل في سبيله، فيكرمهم بالشهادة. يعني يوم أحد. وقد ورد في فضل الشهيد غير ما آية وحديث. أو شهداء على الناس يوم القيامة أي وليتخذ منكم من يصلح للشهادة على الأمم يوم القيامة بما يبتلي به صبركم على الشدائد من قوله تعالى: {لتكونوا شهداء على الناس} والقول الأول أظهر وأليق بقصة أحد.
{والله لا يحب الظالمين} أي لا يحب من لا يكون ثابتاً على الإيمان صابراً على الجهاد. وفيه إشارة إلى أن من انخذل يوم أحد كعبد الله بن أبي وأتباعه من المنافقين، فإنهم بانخذالهم، لم يطهر إيمانهم بل نجم نفاقهم، ولم يصلحوا لاتخاذهم شهداء بأن يقتلوا في سبيل الله. وذلك إشارة أيضاً إلى أن ما فعل من ادالة الكفار، ليس سببه المحبة منه تعالى، بل ما ذكر من الفوائد من ظهور إيمان المؤمن وثبوته، واصطفائه من شاء من المؤمنين للشهادة. وهذه الجملة اعترضت بين بعض الملل وبعض، لما فيها من التشديد والتأكيد. وأن مناط انتفاء المحبة هو الظلم، وهو دليل على فحاشته وقبحه من سائر الأوصاف القبيحة.
{وليمحص الله الذين آمنوا} أي يطهرهم من الذنوب، ويخلصهم من العيوب، ويصفيهم. قال ابن عباس والحسن ومجاهد والسدي ومقاتل وابن قتيبة في آخرين: التمحيص الابتلاء والاختبار. قال الشاعر:
رأيت فضيلاً كان شيئاً ملففا ** فكشفه التمحيص حتى بداليا

وقال الزجاج: التنقية والتخليص، وذكره عن: المبرد، وعن الخليل. وقيل: التطهير. وقال الفراء: هو على حذف مضاف، أي وليمحص الله ذنوب الذين آمنوا.
{ويمحق الكافرين} أي يهلكهم شيئاً فشيئاً. والمعنى: أن الدولة إن كانت للكافرين على المؤمنين كانت سبباً لتمييز المؤمن من غيره، وسبباً لاستشهاد من قتل منهم، وسبباً لتطهير المؤمن من الذنب. فقد جمعت فوائد كثيرة للمؤمنين، وإن كان النصر للمؤمنين على الكافرين كان سبباً لمحقهم بالكلية واستئصالهم قاله: ابن عباس. وقال ابن عباس أيضاً: ينقصهم ويقللهم، وقاله: الفراء. وقال مقاتل: يذهب دعوتهم. وقيل: يحبط أعمالهم، ذكره الزجاج، فيكون على حذف مضاف.
والظاهر أن المراد بالكافرين هنا طائفة مخصوصة، وهم الذين حاربوا رسول الله صلى الله عليه وسلم. لأنه تعالى لم يمحق كل كافر، بل كثير منهم باق على كفره. فلفظة الكافرين عام أريد به الخصوص. قيل: وقابل تمحيص المؤمن بمحق الكافر، لأن التمحيص إهلاك الذنوب، والمحق إهلاك النفوس، وهي مقابلة لطيفة في المعنى انتهى. وفي ذكر ما يلحق المؤمن عند إدالة الكفار تسلية لهم وتبشير بهذه الفوائد الجليلة، وأن تلك الإدالة لم تكن لهوانٍ بهم، ولا تحط من أقدارهم، بل لما ذكر تعالى.
وقد تضمنت هذه الآيات فنوناً من الفصاحة والبديع والبيان: من ذلك الاعتراض في: والله يحب المحسنين، وفي: ومن يغفر الذنوب إلا الله، وفي: والله لا يحب الظالمين. وتسمية الشيء باسم سببه في: إلى مغفرة من ربكم. والتشبيه في: عرضها السموات والأرض. وقيل: هذه استعارة وإضافة الحكم إلى الأكثر في أعدّت للمتقين، وهي معدة لهم ولغيرهم من العصاة. والطباق في: السرّاء والضرّاء، وفي: ولا تهنوا والأعلون، لأن الوهن والعلو ضدان. وفي آمنوا والظالمين، لأن الظالمين هنا هم الكافرون، وفي: آمنوا ويمحق الكافرين.
والعام يراد به الخاص في: والعافين عن الناس يعني من ظلمهم أو المماليك. والتكرار في: واتقوا الله، واتقوا النار، وفي لفظ الجلالة، وفي والله يحب، وذكروا الله، وفي وليعلم الله، والله لا يحب، وليمحص الله، وفي الذين ينفقون، والذين إذا فعلوا. والاختصاص في: يحب المحسنين، وفي: وهم يعلمون، وفي: عاقبة المكذبين، وفي: موعظة للمتقين، وفي: إن كنتم مؤمنين، وفي: لا يحب الظالمين، وفي: وليمحص الله الذين آمنوا، وفي: ويمحق الكافرين. والاستعارة في: فسيروا، على أنه من سير الفكر لا القدم، وفي: وأنتم الأعلون، إذا لم تكن من علو المكان، وفي: تلك الأيام نداولها، وفي: وليمحص ويمحق، والإشارة في هذا بيان. وفي: وتلك الأيام. وإدخال حرف الشرط في الأمر المحقق في: إن كنتم مؤمنين، إذا علق عليه النهي والحذف في عدة مواضع.